تحت الرادار العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية ــ الفلسطينية

[\"???? ?????? ???? ????. ??????????? \"??????] [\"???? ?????? ???? ????. ??????????? \"??????]

تحت الرادار العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية ــ الفلسطينية

By : Raja Khalidi رجا الخالدي

في أعقاب الحملة التي قامت بها إسرائيل في الضفة الغربية بحثاً عن ثلاثة من المستوطنين الإسرائيليين الشباب المفقودين، واستخدمت فيها قسوة لم تُشْهَد منذ الانتفاضة الثانية، مع تكلفة يومية (أي خسارة) لاقتصاد الخليل وحده بلغت 12 مليون دولار، راحت أصوات فلسطينية متنامية تطالب بوقف «التنسيق الأمني» الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وكانت قوات أمن السلطة الفلسطينية تنحت جانباً، في حين انتشر الجيش الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية وقراها دون اعتبار لمناطق الولاية الأمنية الاسمية المخصصة للسلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو.
وكان التنسيق الأمني، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، هو العمود الفقري في إعادة بناء أمن السلطة الفلسطينية، وذلك لضمان الأمن الداخلي، وإطلاق يد القوات الإسرائيلية للعمل كما تشاء في جميع أنحاء الأراضي المحتلة.

إنهاء التنسيق الأمني؟

يبقى الاشمئزاز الشعبي العلني من صورة هذا التنسيق والآثار المترتبة عليه أمراً مفهوماً، خصوصاً أن قواعد اشتباك السلطة الفلسطينية القائمة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية تمنعها من حماية السكان من الإجراءات الإسرائيلية مثل الاعتقال وهدم المنازل وإطلاق النار على المتظاهرين. ولكن في جلبة المطالبة بالوقف الفوري للتنسيق، يبدو أن لا أحد، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، لديه أجندة، أو خطة بديلة، لما سيأتي في ضوء المواجهة العنيفة المحتملة مع إسرائيل، وما يعقب ذلك من انهيار في دورة الحياة «الطبيعية» وانتشار «فوضى» هي أقرب إلى ما شهدته الفصول الأخيرة من الانتفاضتين الأولى والثانية. ولا يبدو أيضاً أنَّ ثمة إدراك واضح بأنّ نهاية التنسيق الأمني تعني عملياً موت إطار أوسلو برمته نهائياً، ذلك الإطار الذي يبقى اليوم، على الرغم من سوء صيته وإدارته الإسرائيلية أحادية الجانب، إطار أمرٍ واقعٍ وقانوناً لاشتغال المؤسسات الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني بأكمله. ومع ذلك، فإنَّ الانقلاب الأخير في صورة «الجاهزية لإقامة دولة فلسطينية» يطرح السؤال حول ما إذا كان أوسلو قد مات بالفعل، في حين يقتصر أمر الأطراف المعنية على انتظار اللحظة المناسبة وتوازن القوى المناسب على الأرض كي تكشف للعالم عن هذه الحقيقة.
في حين يشكّل التنسيق الأمني الآن الهدف المفضل الذي يتجه إليه النفور الشعبي من أوسلو، بدا للحظة فيما مضى أنَّ الجانب الاقتصادي من أوسلو (بروتوكول باريس الخاص بالعلاقات الاقتصادية) هو مرمى الغضب الشعبي، وذلك حين ألمّت الأزمة الاقتصادية في عام 2012 بجيوب المستهلكين.
وكانت المطالبة الشعبية بإلغاء البروتوكول أكثر منطقية من بعض النواحي، وربما أكثر جدوى من التوقعات المثيرة الحالية من سلطة فلسطينية مقيّدة بأوسلو حتى إشعار آخر. والحال، ان الانفصال الأمني عن إســـرائيل ســوف يستدعي مجموعة من التدابير الاقتصادية الإســرائيليــة أحادية الجانب التي من المرجح أن تزيد الفصل بين الاقتصادين وتفاقم بؤس مجموعة من الأسر التي تعتمد على الروابط الاقتصـــادية الحــاليـة، بمــا في ذلك 150 الفاً من موظفي السلطة الفلسطينية، ونحو 70 الفاً من العاملين في إسرائيل، وآلاف الأعمــال والصناعات الصغيرة الموجودة في أنحاء الضفة الغربية والتي تعتمد على التجارة عبر الحدود.

شروط تفكيك اوسلو

من دون إعداد وبدائل عملية لإدارة شؤون الناس، ومن دون التأكيد على شيء من التواصل الجغرافي، وإبقاء الاقتصاد واقفاً على قدميه يقاوم ضغط التدابير الانتقامية الإسرائيلية، من المنطقي أن يكون التنسيق الأمني آخر مكون يتفكك من مكونات أوسلو، إذا كان من الواجب بالفعل اتخاذ قرار وطني فلسطيني بنبذ أوسلو والبدء من جديد. كائناً ما كان الجزء الذي يجب تحديه أولاً من إطار أوسلو (الذي بلغ الآن 20 عاماً)، فإن أي تغيير (إسمي أو فعلي) لا بدّ أن يفضي إلى نتائج مهمة تطاول المجتمع بأسره. ولذلك، يحتاج تفكيك أوسلو، سواء كان تدريجاً أو دفعة واحدة، إلى إجماع ديموقراطي واسع يتحقق في إطار مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، أو ربما إلى شكل متجدد من الحكم «الوطني» الفلسطيني أشدّ تلاؤماً مع حقائق القرن الواحد والعشرين على الأرض وفي المنطقة.
هل الاقتصاد والشعب الفلسطينييّن على استعداد لدفع ثمن الانفصال، حتى لو كانت المواجهة لا تؤدي إلى انهيار عنيف للقانون والنظام؟ مهما تكن النيات والمقاصد والمظاهر، يبدو الجواب للحظةٍ كأنه أمر بسيط. لو أنَّ السلطة الفلسطينية ردّت على احتجاجات عام 2012 بالانتقال أحادي الجانب بعيداً عن البروتوكول وعبّأت الدعم الدولي وراء بزوغ اقتصاد له وظائفه السيادية التي تتعدى حدودها الحالية، لكانت بعض أجزاء البديل جاهزة الآن. لكن صنّاع القرار بدوا آنئذٍ، شأنهم اليوم، متشبثين بالوضع القائم (وتابعين له) إلى درجة أنَّه لم يكن متوقعاً أيّ قطع معه إلا من الجانب الإسرائيلي.
يحتاج الأمن الاقتصادي الوطني الفلسطيني، من زاوية استراتيجية، إلى وضع حد للهيمنة الإسرائيلية (و/أو الانفصال التجاري والمالي والنقدي). لكن تكلفة الانفصال الاقتصادي يجب أن تُحسب بدقة على مستويات مختلفة، كثير منها ليس واضحاً ولا موثّقاً، بغض النظر عن مصير التنسيق الأمني. وعلى سبيل المثال، فإن احد الروابط الاقتصادية التي جرى تجاهلها إلى حد كبير، لكنها ذات أهمية متزايدة مع إسرائيل، يمكن أن نشهده في أي سبت عندما تعبر نحو 4.500 سيارة ممتلئة بالفلسطينيين من الجليل والمثلث الشمالي (من الحائزين الهوية الإسرائيلية) الحدود إلى محافظة جنين وحدها في رحلة تسوق أسبوعي لمجموعة من السلع (مواد غذائية وملابس وسلع منزلية) والخدمات (تصليح السيارات وطب الأسنان والسياحة) التي هي أرخص هناك، بما يبلغ نحو 500 ألف دولار من المشتريات النقدية ـ هي مصروف جيب المدينة لمدة أسبوع. وثمة تدفقات مماثلة (وإن كانت أصغر) تصل نابلس وقلقيلية ورام الله وأريحا والخليل، ناهيك عن القدس، وتُقَدَّر بأكثر من 300 مليون دولار سنوياً (هي في المقام الأول مشتريات نقدية). ومن أصل سبعة آلاف طالب في الجامعة الأمريكية في جنين، هناك 2500 طالب من فلسطينيي إسرائيل، كما أن 1500 من طالبات جامعة الخليل للفتيات هن من النقب. وفي الآونة الأخيرة عاودت مثل هذه الروابط التاريخية الظهور في شكل قوي وجديد يكذّب بعض الحكمة التقليدية حول تحبيذ الانفصال عن الاقتصاد الإسرائيلي أو ضرورته. والواقع، أن مثل هذه الأمثلة تفيد في التحديد الدقيق لمحاور التبعية للاقتصاد الإسرائيلي التي يُفَضَّل كسرها والمطالبة بالانفصال عنها، كما تفيد في تحديد سبل إعادة التواصل الاقتصادي الفلسطيني-العربي التي ينبغي أن يستهدفها التكامل.
فليلاحِظ مؤيدو حلّ الدولتين ومؤيدو حلّ الدولة الواحدة أنه، في ظل الوضع الحالي، مهما يكن تعسّر آفاق اقتصاد فلسطيني مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، تبقى إعادة الاتصال بين الاقتصاد الفلسطيني في إسرائيل وذاك في الضفة الغربية أعمق وأكثر تعقيداً مما قد يُعتقَد.

وهذه الظاهرة لا تشــكل رصيداً استراتيجياً لجميع الفلسـطينيين ولآفاق بقائهم وربما ازدهارهـم من جديد في وطنهم فحسب، بل يجب أيضاً أن تأخذ مكانها على الفور في النقاش حول إيجابيات الانفصال الاقتصادي والتنسيق الأمني... وسلبياتهما. 

[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفيرالعربي"]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Israel’s War: Making Palestine Unlivable for Palestinians

      Israel’s War: Making Palestine Unlivable for Palestinians

      For six weeks now, Israel has unleashed its full military power in a prolonged retaliation for the October 7 surprise attack by Hamas-led Palestinian armed brigades targeting Israeli towns and settlements surrounding the Gaza Strip, which killed some 1200 Israeli civilians and military personnel. Palestinians view this a natural outcome of years of economic and social deprivation in Gaza and denial of Palestinian rights everywhere, and as legitimate resistance against occupation. While generally not condoning the deliberate killing of non-combatants, many Palestinians look at October 7 in terms of proportionality with what has happened since. For Israel and its allies around the globe, this brazen and bloody assault entailed an intelligence and policy failure that has been termed Israel’s Pearl Harbour, its 9/11. Meanwhile, Israel and the US have cast Hamas as a Nazi-ISIS entity that must be eliminated for the benefit of Western civilization itself.

    • The Resurgent “Arab Economy” of Palestine

      The Resurgent “Arab Economy” of Palestine

      Hyperbole aside, events of the past weeks here in Palestine have if nothing else pointed to a major re-imagining of the prospects for Palestinian political unity and vision, effective resistance to Israel and a fresh narrative of the meaning of liberation to a younger generation of Palestinians, one that resonates among their compatriots and their supporters worldwide. Once the dust from this latest battle has settled, the Palestinian political system will need to draw the latest lessons to gear up for future phases of coordinated confrontation. In particular Palestinian politics going forward can only benefit from the potential for mass mobilization and coherent, coordinated action that has been shown to be within the realm of the possible. The fact that the latest struggle has brought 1948 in all its political, social and geographic dimensions back into the center of attention, suggests a moment where Palestine as a whole is at stake, not only Gaza or Jerusalem or Ramallah but also Jaffa and Haifa and the shatat.

    • كيف يمكن للقدس الصمود؟

      كيف يمكن للقدس الصمود؟
      منذ سنوات، دأب أحد الأقارب من أبناء القدس الأصيلين يحذّرني من أنّ المخططات الإسرائيلية للاستيلاء على الحرم الشريف جاهزة بل قيد التنفيذ، وسيتم تحويل ساحاته إلى "حديقة وطنية" ترتبط بالمس

شبح قطاع غزّة المقيم

[ هذا المقال جزء من ”أصوات من أجل غزة" وهو ملف خاص تنشره جدلية على مدار شهر كامل. للإطلاع على بقية المقالات اضغط/ي هنا]

 

يجوز وصف الحالة السياسيّة والاقتصاديّة لقطاع غزّة على مدار السنوات الماضية بالقول إنّها تتراوح بين التأزّم، والتأزّم الشديد. أينما ولّيت وجهك في غزّة فثمّة إشكالات وعُقد. العنوان العريض الذي هو "حصار غزّة"، بعد سبع سنوات على تسلّم "حماس" السلطة، لم يعد كافيًا للإحاطة بكافة جوانب بؤس العيش الغزّي؛ وإن كان قرار العالم و"الدول الشقيقة" بمعاقبة أهل غزّة والمتاجرة بهم لا يزال ساري المفعول والفاعليّة؛ متمثلاً في الإدخال المحسوب للبضائع والمحروقات، والإفشال المتعمّد لكافة محاولات إيجاد حلّ جذري لانقطاع الكهرباء، والإغلاق شبه الدائم لمعبر رفح؛ منفذ غزّة الوحيد على العالم الخارجيّ.

لكنّ هذا الردح الطويل من العيش المقنن قد تجاوز بالفعل مرحلة استفزاز الصمود والإبداع، وبات لا يستفزّ شيئاً غير المزيد من المعاناة والضجر ومحاولات البحث المرتبكة عن بدائل تحت الأظافر. تحوّل الحصار، ومعه ما معه مما يترتب عليه، إلى شبح ينتاب، منذ مدّة طويلة، قطاع غزّة. وصار في كثير من المناسبات شأنًاً تسيء الحكومة إليه إذ تصيِّر الحديث عنه إلى بيانات رسميّة وفعاليات كرتونيّة. وتدفع به في معترك خلافها واختلافها مع سلطة رام الله والنظام المصريّ.

يرى أهل غزة اليوم حصارهم على أنّه "شيء ما" جاثم على صدر المدينة وصدرهم، ويرفضون بصمت كلّ المقاربات المعلّبة لهذا الشيء الذي ينغّص عليهم عيشهم. ويدركون أنّ من يعدّ ضربات العصيّ ليس كمن يتلقّاها. يدركون، بحسرة، أنّ العالم يتغيّر من حول مدينتهم. أمّا مدينتهم نفسها فهي مربوطة بالأرض، مثقلة ببطولتها، ولا تتغيّر. يفرض الوعي بهذا الشلل السياسي والاجتماعيّ نفسه على المزاج العام، وينتهي في كثير من المناسبات بمحاولات اشتباك رديئة مع الواقع، أو بتفريغ سريع للتوتّر عبر ارتفاع موسمي لحدّة الصدام مع "إسرائيل".

ظهرت واحدة من تجليات هذا الانسداد المنهجي في الأفق الغزّي مع تقرير فريق الأمم المتحدة القطريّ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في أغسطس لعام 2012. التقرير الذي عُنون "غزة في 2020، هل ستكون مكانًا ملائمًا للعيش؟" ليس بريئاً. إذ يجيء في مقدّمته أن الغاية من ورائه هي "تسليط الضوء على القضايا والمتطلبات الإنسانيّة والاجتماعية والتنموية التي تحتاج إلى معالجة، بصرف النظر عن السياق السياسيّ". لكنّ التقرير يقدّم تصورّاً لما ستؤول إليه الأمور في القطاع كنتيجة لازمة لنفس السياق السياسيّ الذي يحاول التقرير صرف النظر عنه.

يوضّح التقرير أن ما يخبئه المستقبل لغزّة يتضمن ازدياداً كبيراً في عدد السكان ليصل إلى حوالى 2.1 مليون نسمة بعد ستّة أعوام. سيعني هذا أن الكثافة السكانيّة في الشريط الساحليّ الضيق ستصل إلى رقم قياسي هو 5835 شخصًا لكل كيلو متر مربّع. الطلب على المياه سيزيد بنسبة قدرها حوالى 60%، كذلك الأمر بالنسبة لقطاع التعليم (مطلوب أكثر من 400 مدرسة) والقطاع الصحّي الذي سيعاني نقصاً في الكادر الطبّي يمكن تقديره بحوالى 1000 طبيب و2000 ممرض.

اقتصادياً، لا تبدو الصورة أقلّ قتامة إذ بلغت نسبة البطالة في قطاع غزّة في العام قبل الفائت حوالى 29% وهي في ازدياد مضطرد. أمّا معدل البطالة بين النساء فيقترب من 50%، في حين يرتفع ليصل إلى حوالى الـ 58% لدى الشريحة الحرجة التي تتراوح أعمارها بين 20 و24 سنة. أمّا نسبة الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي أو تلك المعرضة له فبلغت حوالى 60%.

ولكن، ماذا عن المسائل الأكثر دقّة؟ كيف يمكن، مثلاً، توصيف منهج حكومة "حماس" في الداخل الغزّي، وما هي طبيعة العلاقة بين ما يحدث في مصر وانعكاسات ذلك على غزّة، وعلى خشونة/نعومة اليد الحكوميّة التي تحاول القبض على كافة مفاصل العيش المجتمعي في القطاع؟ ماذا عن المقاومة والاكتظاظ المسلّح في غزّة بعد كل هذه التغيرات الاقليميّة؟

الوضع الداخلي

قبل عشرة أيام فقط من فوز مرشّح جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسيّة المصريّة الأخيرة، كانت حكومة "حماس" في غزّة تستشعر قوّة موقعها الإقليمي، وتقف متلهفة على النافذة المصريّة. انتفت "الفلاتر" البراغماتيّة التي تقف، في العادة، حائلاً بين الفضاء العام وبين أدبيّات حركة المقاومة الإسلاميّة بعد سقوط طاغية الاتحادية وقبيل تسلّم الإخوان للسلطة في أكبر بلد عربي. وقتئذ، صرّح محمود الزهّار بأنّ "المرحلة القادمة ستشهد دورة حضارية جديدة"، وأنّ مقر المجلس التشريعي الفلسطيني سيكون "عاصمة للدولة الإسلاميّة الكبرى".

تعاظم هذا الارتياح بعد فوز محمّد مرسي والتسهيلات النسبيّة التي شهدها معبر رفح وانكفاء الجيش المصريّ عن تدميره المنهجيّ للأنفاق المنتشرة على طول الشريط الحدوديّ. شهد عام حكم الإخوان نمواً ملحوظاً في نشاطات التجارة وفي طبقة "الأغنياء الجدد" الذين استفادوا من الاقتصاد-تحت-الأرضي، الأمر الذي انعكس في الثراء الملحوظ لقطاع واسع من قيادات حركة حماس ورجال الأعمال. غضّت جهات المحاسبة الداخلية في "حماس" الطرف عن هذا الثراء وعن المستفيدين منه من قيادات الحركة وكوادرها قبل أن تعود لتضبط أمورهم، وحتى تعتقل بعضهم، بعد سقوط مرسي وانتهاء شهر العسل مع المخابرات المصريّة.

أمّا شعبياً، فارتدّ هذا الارتياح الخارجي والهدوء النسبيّ مع القاهرة سلباً على عامّة الناس في غزّة، لاسيّما الشريحة الأكبر التي لا تستفيد من تسهيلات السفر لخلوّ أجندتها من أية رحلات. ففي شهر فبراير من العام الفائت أطلقت حركة "حماس" في قطاع غزّة حملة "ترسيخ القيم والفضيلة" التي هدفت لمكافحة الزيّ "غير الملتزم" وقصّات الشعر الغربيّة. الحملة انطلقت بالتزامن مع قرار مجلس إدارة جامعة الأقصى فرض الزيّ الشرعي على الطالبات.

بعد شهر واحد من الحملة، أصدرت الحكومة قانوناً جديداً يقضي بالفصل التّام بين الجنسين في المدارس ومنشآت وزارة التربية والتعليم والمدارس الخاصّة بعد الصّف الثالث الابتدائيّ. في حينه، قال وليد مزهر المستشار القانوني لوزارة التعليم إنّ القانون يهدف للحفاظ "على ثقافة الشعب الفلسطيني". لم يكد الصخب الذي تلى إصدار القانون ينتهي من الشارع الغزّي حتى شغلت الغزيين تصريحات وزير الداخليّة فتحي حماد الذي قال في حفل تخريج فوج ضبّاط في مايو من العام الفائت إنّ "الأجهزة الأمنيّة ستراقب كلّ من يساهم في خفض مستوى الرجولة في غزّة".

لم يُكتب لهذا الانتشاء الحمساويّ أن يستمر. سقط محمّد مرسي في القاهرة وسقطت معه بنود عديدة على جدول أعمال حكومة حماس في غزّة. للوهلة الأولى، لم تصدّق "حماس" ما حدث. تجسّد فشلها في استقراء المشهد المصريّ عبر القيام بأعمال صبيانيّة دون أي اعتبار لتبعات تلك الأعمال على المجموع الإنسانيّ الواقع تحت سلطتها. حيث قامت كتائب القسّام، ذراع "حماس" المسلّح بأكثر من ثلاثة عروض عسكريّة رفع المشاركون المقنعون فيها شعارات "رابعة"، في حين كانت وجوه الغزيين مكشوفة على مستقبل غامض وصفحة جديدة من التشهير والتشويه المصري الرسميّ وشبه الرسميّ لغزّة وأهلها.

ولكن، ومع مرور الوقت، بدأت قاعدة التناسب العكسيّ بين ارتياح حكومة "حماس" على الصعيد الخارجي وبين الحدّة في نبرة خطابها وأفعالها الداخليّة تنطبق بامتياز. اتّسمت الأشهر التي تلت عزل مرسي على يد جيش السيسي  بهدوء نسبيّ فيما يتعلق بنشاطات حماس لأسلمة المجتمع، وانصبّت الجهود في محاولة الحركة البحث عن أرض صلبة ومسكنات للجرح الذي أصاب يقينها، رغم أنّها ظلّت مصرّة على بعض خطوط الحمراء التي كان من بينها، على ما يبدو، منع محمّد عسّاف من الغناء.

محاولات حماس الخروج من عنق الزجاجة شملت تلطيفاً لخطابها المتعلّق بالمصالحة الوطنية، وانفتاحاً على "الآخر" تحت وطأة الأزمة المالية المتعاظمة التي تتعرض لها الحكومة لاسيّما بعد إيقاف إيران دعمها للحركة. حيث صرّح زياد الظاظا، نائب رئيس وزراء الحكومة، بأنّ هناك قبولاً مبدئياً لخصخصة توزيع الكهرباء وإدارة معابر قطاع غزّة مع "مصر" و"إسرائيل" عبر تسليمها إدارتها لرجال أعمال من القطاع الخاص في غزّة.

المقاومة؟

من الضروري، حيم نتحدث عن المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة في غزّة أن نؤكّد أنّها، بكلّ أسف، "في غزّة". تنبع هذه الضرورة من حقيقة الفشل الفلسطيني العارم في الاتفاق على استراتيجيّة محددة، سواء كان الحديث منحصراً في ثنائيّة غزة/رام الله، أو مفتوحاً على نشاطات وفعاليات الشعب الفلسطينيّ في كلّ أماكن تواجده. يلقي هذا الفشل بظلاله على كلّ أفعال الاشتباك مع إسرائيل، ويعيق أي إنجاز حقيقي، بعيد المدى، لأيِّ من مسارات المقاومة الموجودة على الطاولة.

ففي حين تستمر غزّة التي يمكن تشبيهها بأنها ضاحية جنوبية لا بيروت لها في دورها كمخزن للنّاس والأسلحة، تبدو الضفّة الغربيّة نموذجاً ناجحاً لسياسات الهندسة الاجتماعية الغربيّة والسياسات النيوليبراليّة التي طبّقها بنجاعة رئيس وزراء رام الله السّابق سلام فياض. وفي حين يركّز قطاع كبير من النشطاء الفلسطينيين جهودهم على مسار مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها ويختارون نموذج "الأبارتهايد" لمقاربة المسألة الفلسطينيّة، يجتمع الرئيس الفلسطيني بطلاب إسرائيليين في المقاطعة برام الله ويطالب في خطابه أثناء تشييع مانديلا في جنوب إفريقيا بعدم مقاطعة "إسرائيل".

وفي حين تنجح "حماس" في توسيع دائرة قدراتها الناريّة لتصل حدود تل أبيب، فإنّها لا تتورع في مرحلة لاحقة من نشر حرس للحدود في غزّة بغرض منع أيّ إطلاق للصواريخ. هذه الخطوة ما هي إلا تعبيرٌ جدّي عن العقلية البراغماتيّة الآخذة في كسب النقاط داخل الحركة، وعن حسابات الربح والخسارة التي يجريها القائمون على المقاومة في غزّة. هذه المقاومة الذي تأخذ يوماً بعد يوم، صفة دفاعيّة (بشكل استراتيجي؟) لا يلبّي، بحسابات حرب العصابات والكفاح المسلّح، طموحات الحالة الفلسطينيّة، وإن كان ذلك يوفّر فرصة لالتقاط الأنفاس على الصعيد الشعبيّ. ليس هذا تشكيكاً في إنجازات المقاومة ولا في كونها ورقة قوّة للشعب الفلسطيني، بل هو تساؤل مشروع له ما يدعمه على الأرض والجغرافيا.

ولكن، هل تستطيع غزّة احتمال الاشتباك الدّائم مع الاحتلال؟ هل من العدل أن نستثمر في هذا القطع الحاصل بين غزّة وباقي أماكن الوجود الفلسطيني بأن نحمِّلها ما لا طاقة لها به؟ يجب التمعّن في هذه الأسئلة لاسيّما وأن ثمة محاولات دائمة لتقديم غزة على أنّها "النموذج" المخلّص الذي سيزيل الهم والغمّة.

وفي العموم، وبإطلالة عريضة على المشهد، يبدو الفلسطينيون اليوم مغرقين في الاغتراب والتفتت، لاسيّما فلسطينيو القطاع الذين لم يعد بوسعهم ولا برغبتهم اختيار تطوّر بعينه للأحداث من حولهم. وما زال الحصار الذي صار عمره ثمانية أعوام شبحاً مقيماً يعيش معهم ويجوب بلا هدفٍ وبخطوات ضجرة مدينتهم المتعبة.